مع سير الزمن نلاحظ أن الماديات أصبحت تطغى على عقل وقلب الإنسان أكثر من أى وقت مضى .. أصبح هدفه الأسمى المال والشهوات .. وتراجع الجانب الروحى كثيرا إلا فى قلة .. وأصبحنا نرى الدين فى المساجد فقط أما خارجها فيتبدل الحال وتؤتى المنكرات .. وهذا يرجع إلى طغيان المادة وتعدد الصناعات وتزين الدنيا .. فمن يخرج لشراء قميص مثلا سيجد آلاف الأشكال والأنواع والأثمان حتى يصاب بالحيرة وبعد أن يشترى يعود غير راض عما إشتراه فعينه كانت على الأغلى ثمنا والأعلى جودة .. وهذا أصبح أمرا سائدا فى كل متطلبات الحياة من سيارات و أجهزة كهربائية وأثاث و ديكورات وغيرها وغيرها.
تنوعت الصناعات تنوعا كبيرا وتزينت الدنيا وخطفت الألباب وصار الإنسان يلهث وراء المال ليقتنى مزيدا من متاع الحياة الدنيا وأصبح الناس فى سباق وتفاخر بينهم .. ولا تهم طريقة الحصول على المال
ولكى يتغلب المؤمن على هذه الفتن يجب أن يعى دائما عدة أشياء :
*أن هذا المتاع لا يقارن بنعيم الجنة التى فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
*أن هذا النعيم الدنيوى معرض للزوال فسوف تفوته أنت بالموت وقد تذهب به خسارة غير متوقعة أما نعيم الجنة فلا تفوته ولا يفوتك
ونتيجة لتلك الصراعات بين الناس ظهر منهاجا جديدا يسمونه منهاج النقرة !!
يقولون هذه نقرة وهذه نقرة .. أى نفعل مانشاء من معاص وفى نفس الوقت نصلى ونصوم ونحج ونعتمر !! متناسين قول الحق سبحانه وتعالى
(اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَبِ وَأَقِمِ الصَّلَوةَ إِنَّ الصَّلوةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ-45-) العنكبوت
أى أن الصلاة تنهى عن الزنا وكل ما ينكره الشرع من ذنوب كبيرة ومنكرات
وهذا المنهاج أضاع المسلمين من قبل فاحتلتهم الدول الأجنبية وأذاقتهم الهوان وقسمتهم إلى دويلات فصاروا تابعين بعد أن كانوا متبوعين .. ومع ذلك لم يستيقظوا بعد أن نالوا الحرية وإن لم يفيقوا سيكون الآتى أقسى مما مضى بكثير. وسورة الكهف تظهر لنا هذه المعانى واضحة .. الفتية الذين تركوا متاع الدنيا وملذاتها ولجأوا إلى كهف موحش فرارا من الشرك وأهله .. وصاحب الحديقتين المثمرتين الذى أطغته أمواله وأنسته العمل للآخرة فأتلف الله ماله .. والخضر العبد الصالح الذى يجول فى الأرض ينفذ أوامر ربه فيساعد الضعفاء والمساكين من المؤمنين ويعطى علمه لموسى عليه السلام بلا مقابل.. إنه يجول بين البر والبحر ولا ينشغل بمال ولا غيره من متاع الحياة الدنيا .. ولا يطلب أجرا ممن ساعدهم ..ثم ذو القرنين الذى لم يجلس على عرشه ليتمتع بما آتاه الله سلطان وجاه وخير .. بل يستخدم ما أعطاه الله له من إمكانيات ليقطع الأرض غربا وشرقا ينصر التوحيد وينشره ويواجه الظلم ويدحره..بلا أجرمن بشر.
كما أن هذه السورة الكريمة ترد على من يكذبون بالبعث وظهر ذلك فى قصتها الرئيسة .. قصة أصحاب الكهف . والكفر بالبعث أو الشك فيه وفى الحياة الأخرى الخالدة يؤدى إلى خلل خطير فى أى مجتمع .. لأن الإنسان سيحاول إستغلال حياته القصيرة فى الدنيا للإغتراف من الأموال بأى طريقة سواء حلال أم حرام والتمتع بالشهوات بقدر ما يستطيع وبذلك تدب الصراعات بين الناس للحصول على النصيب الأكبر ومن تغب عنه عين العدالة سيفعل ما يشاء .. أما المؤمن الحق فإنه يعلم أن ما فاته من متاع الدنيا سيجد أفضل منه فى آخرته ويعلم أن ذنوبه سيحاسب عليها .. فتراه قانعا عازفا عن ذلك المتاع الفانى منتظرا يوم البعث ليأخذ جائزته .
(يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَوةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ-38-) التوبة
انفروا : اخرجوا للجهاد***اثاقلتم : تباطأتم
والمنكرون للبعث كل منهم له وجهة نظر وقد رد عليهم جميعا القرآن الكريم ليصحح لهم تلك الآراء الخاطئة :
1- هناك من ينكرون البعث لأنه يخالف ما إعتادوه من سنن وقوانين كونية فأرشدهم إلى النظر بحكمة وتدبر الكون من حولهم :
(وَمِنْ آيَتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ-39-)فصلت
خاشعة :يابسة جدبة*** اهتزت وربت : انتفخت وعلت
(وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَرَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ-9-وَالنَّخْلَ بَاسِقَتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ-10-رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ-11-) ق
حب الحصيد :حب الزرع الذى يزرع *** باسقات :طوال أو تحمل الثمار*** نضيد: ثمرها متراكب بعضه فوق بعض *** الخروج : الخروج من القبور عند البعث
(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ–42-)الزمر
(إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ-95-)الأنعام
تؤفكون :فكيف تصرفون عن عبادته
2- وهناك من يرون أن الميت بعد أن يتحلل ويصبح رفاتا وترابا من الصعب أن يبعثه الله .. فيرد عليهم :
(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ-27-)الروم
المثل الأعلى :الوصف الأعلى فى الكمال والجلال
(يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَعِلِينَ-104-)الأنبياء
السجل : الصحيفة التى يكتب فيها***للكتب : على ما كتب فى السجل
(وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَمَ وَهِيَ رَمِيمٌ-78-قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ-79-)يس
رميم : بالية بشدة
3- وهناك من يرون أنه أمر لا حاجة إليه ولا فائدة منه منه فقال لهم :
(وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ-105-)التوبة
(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَلَهُمْ-6-فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ-7-وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ-8-)الزلزلة
يصدر : يخرجون من قبورهم ***أشتاتا : متفرقين
(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَئوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى-31-) النجم
4- أما المعاندون المكابرون المقسمون أنه لا بعث ولا حساب فيجابههم ويقسم عليهم فى مقابل قسمهم ويصور لهم ما سيحيق بهم من مذلة ومهانة :
(وأقسموا بالله جهد أيمنهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون-38-) النحل
(وقالوا أءذا ضللنا فى الأرض أءنا لفى خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كفرون –10-قل يتوفكم ملك الموت الذى وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون –11- ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صلحا إنا موقنون-12-)السجدة
ضللنا : ضعنا فيها وصرنا ترابا *** ناكسوا : مطرقوها خزيا وندما
(زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربى لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير-7-)التغابن
وقصة أصحاب الكهف تعالج تلك الأفكار وترينا بعث الفتية بعد رقاد طويل إستمر مئات السنين .
اسم السورة
الكهف هو تجويف كبير فى الصخر.. وقد إختبأ فيه فتية آمنوا بالله ومعهم كلبهم وقد فروا بدينهم من قومهم الذين عبدوا آلهة غير الله سبحانه وتعالى .. وهو كهف لم يُعلم مكانه على وجه اليقين .. فأنامهم سبحانه وتعالى نوما ثقيلا لمدة طويلة تعدت الثلاثمائة عام .. ثم بعثهم ليكونوا آية لمن ينكر البعث وتثبيتا لقلوب المؤمنين .
وهناك سؤال قد يتبادر إلى الأذهان : لماذا سميت السورة بسورة الكهف ولم تُسم بسورة أصحاب الكهف ؟
هناك حكمة يجب أن نحاول إدراكها (على قدر فهمنا مع أهمية الإعتقاد بأننا لن نحيط بعلم الله ولكن ننظر من زاوية) .. أليس ما بداخل الخزانة من نقود ومجوهرات يكون أثمن وأهم من الخزانة نفسها
نعم هو كذلك ولكن فى هذه القصة الأمر مختلف
فلقد أطلق الله سبحانه وتعالى على هذه السورة : سورة الكهف
ذلك المكان الذى قبض فيه الحق سبحانه وتعالى الزمن فمر على الفتية كأنه لحظات وظلت أجسادهم سليمة حتى أنهم ظنوا أنهم قد ناموا يوما أو بعض يوم
إذا فهذا الكهف فريد من نوعه أعده الله سبحانه وتعالى إعدادا خاصا حتى حفظ الأجساد لمدة 309 سنة
أما الفتية فهم مؤمنون قد تعرضوا لإضطهاد دينى .. والإضطهاد الدينى يحدث فى الأرض منذ أن وضع آدم قدمه عليها حتى يومنا هذا
وأول حادث من نوعه هو قتل قابيل هابيل
(واتل عليهم نبأ ابنى ءادم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين-27-) المائدة
قربانا : ما يتقرب به من البر إلى الله
واضطهاد القرى الكافرة لرسلهم وللمؤمنين
(وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن فى ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظلمين-13-)ابراهيم
(قالوا لئن لم تنته ينوح لتكونن من المرجومين-116-) الشعراء
(قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَدِقُونَ-49-) النمل
تقاسموا بالله : تحالفوا بالله أو احلفوا به ***لنبيتنه وأهله : لنقتل النبى صالح وأهله ليلا بغتة
(كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجدلوا بالبطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب-5-)غافر
الأحزاب : القرى التى كذبت الرسل *** ليأخذوه : ليقتلوه *** ليدحضوا : ليزيلوا بالباطل الحق
(قالوا يشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنرك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمنك وما أنت علينا بعزيز-91-)هود
رهطك : جماعتك وعشيرتك
(قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم-18-) يس
تطيرنا بكم : تشائمنا بكم
واضطهاد أصحاب الأخدود وقتلهم حرقا
(قتل أصحب الأخدود-4- النار ذات الوقود-5-إذ هم عليها قعود-6-وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود-7-وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد-8-) البروج
الأخدود : الشق العظيم كالخندق *** ما نقموا : ما كرهوا وما عابوا
واضطهاد كفار مكة للنبى صلى الله عليه وسلم وإيذاؤه ومحاولة قتله
(وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير المكرين-30-)الأنفال
ليثبتوك : ليحبسوك
واضطهادهم وتعذيبهم للمؤمنين
(وما لكم لا تقتلون فى سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدن الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا-75- ) النساء
(أذن للذين يقتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير –39-الذين أخرجوا من ديرهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صومع وبيع وصلوت ومسجد يذكر فيها إسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز –40-)الحج
صوامع : معابد رهبان النصارى *** بيع : كنائس النصارى *** صلوات : معابد اليهود
( للفقراء المهجرين الذين أخرجوا من ديرهم وامولهم يبتغون فضلا من الله ورضونا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصدقون –8-)الحشر
وهناك الكثير والكثير من الظلم والإضطهاد يلاحق المؤمنين .. ولا زلنا نرى ذلك حتى اليوم فى البوسنة والهرسك وكشمير والشيشان وفلسطين وأفغانستان والعراق .ومن هنا نستنتج أن هناك الكثير من المؤمنين المضطهدين كأصحاب الكهف أما الكهف نفسه فهو فريد من نوعه .. كهف لم يتكرر أبدا فى تاريخ البشرية فاستحق أن تسمى السورة بإسمه دلالة على معجزة الله عز وجل وطلاقة قدرته . والله أعلى وأعلم